نتــابــع
-2-
من نحن ؟.. موعودون بالجنة، لكنه إذا شارف الموت، انقلب الوعد إلى بشارة..
أنت موعود أن يأخذوك إلى نزهة جميلة، جاء يوم النزهة خبروك حضر نفسك، هذه البشرى، هذا هو البرزخ..
﴿وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾
كنتم توعدون، والآن أبشروا أنتم على مشارفها.
﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
الولي المحب، الولي مدبر الأمر..
﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾
يعني كل الذي أصابك في الدنيا من الله عز وجل محض رحمة محض حكمة، محض عدالة، محض عناية، محض رأفة، كونك ولدت من فلان وفلانة، في الزمن الفلاني، في المكان الفلاني، من أبٍ غني أو فقير، كونك تزوجت فلانة، صالحة أو غير صالحة هذا الذي ساقه الله لك في الدنيا، هو محض خير، لأن الله ولي الذين آمنوا، قال تعالى:
﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)﴾
[سورة البقرة]
المؤمن الحق لا يتأسف، لا يقنط، لا يتبرم بقضاء الله، هذا الذي يقضيه الله له كله خير، لولا هذا المرض لما تبت إلى الله توبة نصوحا، لولا هذه الزوجة لما عرفت الله عز وجل، لولا هذا الدخل المحدود لما كنت سباقاً إلى الدار الآخرة، لانشغلت في الدنيا، قال تعالى:
﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)﴾
[سورة الشورى]
الله سبحانه وتعالى إذا قنن على عباده الرزق، فهو تقنين معالجة لا تقنين عجز:
((... يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ ))
[أخرجه مسلم والترمذي وأن ماجة وأحمد والدارمي عن أبي ذر]
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) ﴾
هذه هي المرتبة الأولى، المرتبة الأولى أن تعرف الله ثم تستقيم على أمره، فما المرتبة الثانية ؟:
إذا كملت نفسك، وانضبطت مشاعرك، واستقام عملك، بعد أن عرفت ربك، هذه مرتبة أولى، المرتبة الأرقى منها:
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ ﴾
ها قد نجوت، ها قد طهرت، ها قد عرفت، ماذا بقي عليك ؟.. أن تعرف الآخرين، أن تنجي الآخرين، أن تنقذ الآخرين، أليسوا عباد الله، أليس النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ))
[أخرجه الديلمي عن أبي هريرة]
هذا العبد الشارد الشقي، لو مددت إليه يد المعونة، ويد العناية وذكرته بالله، وأحسنت إليه فانتشلته من أوحال المعصية، إلى جنة القربات، أليس هذا يرضي الله عز وجل، لذلك أجمع المفسرون على أن أعلى مرتبة في الدنيا أن تدعو إلى الله عز وجل:
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ ﴾
قد يظن أحدكم أن خطباء المساجد، العلماء في مجالسهم هم وحدهم الدعاة، ينبغي أن يكون كل مستمع داعية إلى الله عز وجل، ادع أهلك، ادع أقاربك، ادع جيرانك، ادع زملاءك، ادع من تتوسم فيه الخير، لكن الله سبحانه وتعالى يذكرك ؛ يا عبدي مهما تعلمت ومهما تفاصحت، ومهما نمقت الكلام، ومهما قرأت، ومهما لخصت ومهما درست، ومهما زينت الكلام، إن لم يكن لك عمل صالح، فإن هذه الدعوة لا تجدي، الناس، لا يتعلمون بآذانهم، يتعلمون بعيونهم:
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾
أيضاً الدعوة إلى الله والعمل الصالح شرطان غير كافيان، لابد من توافرهما معاً، دعوة قويمة، وعمل طيب، فلو كان العمل خبيثاً ينطبق قول الإمام علي كرم الله وجهه، يقول:
" قوام الدين والدنيا أربعة رجال، عالم مستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وغني لا يبخل بماله، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه فلو ضيع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلم، ولو بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنياه ".
إذاً هذا الذي يدعو إلى الله وليس له عمل صالح، له عمل سيئ.
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
المرتبة الأولى إيمان واستقامة، لكن المرتبة الثانية ليست دعوة واستقامة، لا.. دعوة وعمل صالح، العمل الصالح فيه بذل، فيه تضحية، فيه إيثار..
المرتبة الأولى آمن بالله واستقام على أمره، لكن المرتبة الثانية:
﴿ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ ﴾
استنبط المفسرون والعلماء على أنه يجوز للرجل أن يقول أنا مسلم أو أنا مؤمن من دون أن يعلق هذا القول بمشيئة الله عز وجل، هذا بحث طويل في كتب الفقه والتفسير، حول ما إذا كان يجوز أن تقول أنا مؤمن فقط، أو أنا مسلم، أم يجب عليك أن تقول أنا مسلم إن شاء الله، بعض العلماء استنبط من هذه الآية أنه يجوز أن تقول أنا مسلم أو أنا مؤمن والحمد لله.
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ ﴾
الفقرة الثالثة:
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ﴾
طبعاً لا تستويان، لماذا ؟ ؛ لأن الحسنة تقودك إلى الجنة، والجنة متعة وسعادة وإقبال إلى أبد الآبدين، والسيئة تقود صاحبها إلى النار عذاب إلى أبد الآبدين، يعني من أولى البديهيات أنه لا تستوي الحسنة ولا السيئة، مستحيل.. في الدنيا إن عمل الإنسان عملاً انتهى به إلى الإعدام، هذا الذي نراه أقول هذا من عمل الشيطان، عمله السئ قاده إلى الموت، وفضيحة مع الموت، وازدراء مع الموت، وقد يعمل الإنسان عملاً فيقوده إلى الجنة، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة.
المرتبة الثالثة: مرتبة الإحسان.
﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾
وقفت عند هذه الكلمة، لم يقل الله عز وجل ادفع بالحسنة السيئة لو أن الأعمال الحسنة مليون درجة، أنت مأمور أن تفعل أعلاها أحسن اسم تفضيل على وزن أفعل، يعني يجب عليك أن ترد على السيئة لا بالحسنة، ولكن بالتي هي أحسن.
﴿ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾
هذه مرتبة الإحسان، كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( أمرني ربي بتسع ؛ خشية الله في السرِّ والعلانية، كلمة العدل في الغضب والرضا، القصد في الفقر والغنى، وأن أصل من قطعني وأعفو عمن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأن يكون صمتي فكراً ونطقي ذكراً، ونظري عبرةً ))
هل في الأرض كلها رجل أشد عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي جهل، حينما آمن عكرمة بن أبي جهل، قال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( أتاكم عكرمة مسلماً، فإياكم أن تسبوا أباه، فإن سبَّ الميت يؤذي الحي، ولا يبلغ الميت ))
﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾
أحد التابعين، شتمه رجل وقذع في الشتم، قال له: إن كنت صادقاً فيما تقول، غفر الله لي، وإن كنت كاذباً فيما تقول غفر الله لك.
﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾
عداوة: حقد، ضغينة، إساءة، إياك أن تدفع السيئة بالحسنة، أنت مأمور أن تدفع السيئة بالتي هي أحسن، بأحسن ما تكون.
﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾
إن هذا يحتاج إلى عزيمة، يحتاج إلى طهارة نفس، إلى إرادة.
﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾
آية من ثلاث فقرات، ففي كل فقرة درجة ؛
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) ﴾
المرتبة الثانية:
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ﴾
هذه صنعة الأنبياء، هذه الصنعة لا تعلوها صنعة في الأرض وكل من يستمع إلى الخطبة مؤهل أن يكون داعية إلى الله، ليس في الإسلام مراتب كهنوتية، كلكم يجب أن يكون ولياً لله، وداعية إلى الله.
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) ﴾
كلمة حميم تُطلق على المحبين، على المولهين، على من ذاب في الاخر، يجب أن تعامل عدوك كما لو تعامل صديقك الحميم، محبك الحميم، من يلوذ بك إن كان حميماً.
﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾
أيها الإخوة الكرام حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا وتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني والحمد لله رب العالمين.